مواطن في وطن مفقود

اسم الكاتب : يحيى رباح

على امتداد عقود طويلة، كنت أتابع الكثير من النصوص الأدبية، والتجارب الثقافية، والتعبيرات الإبداعية من فلسطينيين وغيرهم الذين يعيشون تجربة فذة، موجعة، فريدة من نوعها، وهي تجربة أن يكون الإنسان مواطنا ولكن في موطن مفقود !!! يعيش فوق ارض وطنه، وبين صفوف شعبه، ولكن ارض الوطن التي يعيش فوقها الشعب، لا صفة مستقرة لها، ولاحالة أكيدة لها، لا حدود في المكان، ولا تحقق في الزمان، ولا صفة سياسية يمكن الركون إليها !!!حتى الاحتمالات نفسها متداخلة، ورجرجة، ومائعة، ينتج فيها الأسواء منه، لدرجة أن ادعاء المفاجئة يفقد طعمه ومشروعيته، لدرجة انه يختلط عليك كانسان، كمواطن في هذا الوطن المفقود، اللامتحقق، يختلط عليك إلى من توجه طاقة الرفض، أوحالة الاحتجاج، إلى غيرك أم إلى نفسك أم إلى الزمن الخطأ في المكان الخطأ.

شخصيا : اعيش هذه الحالة في قطاع غزة في السنة الأخيرة، منذ الوقوع في هذه المصيدة التي صنعها تحالف بكل براعة، فوجدنا أنفسنا في قطاع غزة في حالة غير مسبوقة، حيث لا نموذج سابقا يقاس عليه، لا مستقلين ولا محتلين، لا طلقاء ولا مسجونين، لا منهزمين ولا منتصرين، حالة صنعها تحالف الأعداء بتأني، وبراعة، وذكاء شديد، بحيث تتجاور المتناقضات، وتتعايش فيها كل الادعاءات، فمن يريد المقاومة فهي موجودة، ومن يريد البؤس الإنساني بأخطر أشكاله التدميرية فهوموجود، ومن يريد الهدوء أوالانفجار، الحياة أوالموت، العربدة والانكسار، الصعود إلى الجنة أوالسقوط في الجحيم، كل ذالك موجود بل كل ذلك هو نفسه، حالة تشبه تلك الملابس التي يصممها المصممون لكي تلبس على الوجهين، وجه من الصوف ووجه من الستان، وجه ابيض ووجه اسود، والشيء الوحيد الغائب في هذا الزحام ألتناحري بين تناقض الأشياء وتناقض الادعاءات ونقائض الرايات ونقائض الافتراضات، الشيء الوحيد الغائب هوالوطن نفسه، وبالتالي فان توصيف الإنسان قياسا لهذا الغائب الأكبر يصبح مهمة صعبة الى حد المستحيل.

في قطاع غزة، انتقل الحصار من المستوى المادي إلى المستوى النفسي، وكذلك الحال مع الانقسام الذي خلق عندنا نموذجا لا يشبهه شيء آخر ولا يمكن القياس عليه، انتقل هوالآخر من العناوين إلى التفاصيل، من العناوين السياسية إلى التفاصيل الدقيقة في الحياة اليومية، بكل جوانبها اجتماعيا ونفسيا وثقافيا وحتى على الصعيد البيولوجي والفسيولوجي.

في هذا الوطن المفقود أنت تبحث عن شيء تتمسك به حتى لو عرفت ان هذا الشيء لا يشكل إنقاذا من أي نوع، انه غريزة الدفاع المستميتة عن الحياة كالغريق الذي يسقط من قمة الشلال الهادر إلى الهاوية الصخرية السحيقة، لا يملك التحكم في نفسه، في حالته يصبح كتلة فاقدة للإرادة، ولكنه حتى وهوفي هذا الوضع اليائس المأساوي يحاول بعقله وعجزه ووهمه وغريزته ان يتشبث بشيء ما، يستوي في ذلك ان يكون هذا الشيء جزء من حقيقة أو ومضة من جنون.

في الوطن المفقود، تجد نفسك تتفرج على نفسك في وسائل الأعلام، تنتظر نشرة الأخبار في قناة الجزيرة وآل CNN،BBC ترى إلى أي درجة من السؤال وصلت حالتك، في بعض الأحيان تتفرج على مأساتك بعيون الآخرين، تماما مثلما استمعنا قبل أيام إلى شهادة القس 'ديزموند توتو' القادم أصلا من 'سويتات ' جنوب أفريقيا في أقسى فصول الفصل العنصري، هذا القس الشهير القادم من تجربة فاجعة، يقول لنا ونحن نستمع إليه في قطاع غزة :'أن وضعكم في قطاع غزة مستعصي على الفهم'.

شكرا لك يا صاحب النيافة، أنا شخصيا في قطاع غزة كففت عن محاولة فهم الحالة، ربما يلزمني لكي افهم ما لا املكه الآن، حيث علماء الفضاء العباقرة إلى حد الجنون يحاولون إن يستنبطوا قوانين مؤكدة لفهم الفضاء، الكون الذي يتسع باستمرار، يستنبطوها من خلال حالة فقدان التأكد، إنها معادلة معقدة جدا، وتصبحون على خير.

مشكور اخي

مشكور اخي