ولا ترانا نبتعد عن الواقع والصواب، إذا قلنا أن عملية التعريب هذه كانت أبعد أثراً من المعارك والفتوح في باب توطيد أركان وأسس الدولة العربية، وبخاصة أنها ساعدت على التحرر الاقتصادي العام من السيطرة الأجنبية، وأعطت الدولة فرصة ذهبية لللإشراف على شؤونها العامة.
وعلى الرغم من أن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، كان قد ركز بشكل خاص على إعادة المثل الإسلامية العليا إلى الحياة العامة، فإنه أي عمر بن عبد العزيز، أعطى أوامره للسمح بن مالك الخولاني والي الأندلس للأمويين، أن يقوم بتخصيص جزء من أراض الخراج هناك ويعطيها لمجموعات عربية تسكن فيها بصورة دائمة، بعد أن أقنعه السمح بن مالك بضرورة بقاء العرب هناك، لأن عمر بن عبد العزيز كان عازماً في بداية حكمه على سحب العرب من الأندلس بسبب مخاوفه على مصيرها في شبة الجزيرة الإيبيرية (الأندلس) النائية والمحاطة بالمياه من معظم جهاتها. وكان يهدف من خلال توزيعه للأرض، الذي يسمح به في مناطق أخرى كالعراق والشام ومصر، أن يجعل العرب يتطلعون إلى الاستقرار في الأندلس بصورة دائمة، الأمر الذي يساعد على انتشار وتجذير مفاهيم العروبة والإسلام. ولعله استوحى خطته هذه من بعض التصرفات المشابهة، التـي قام بها صحابة أجلاء كعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب، الذين أرادوا من خلال هذه الأفعال تعريب الأقاليم المفتوحة، وذلك لأنهم وجدوا من خلال نظريتهم الثاقبة، أن عملية التعريب لن تتم إلا بتثبيت العناصر العربية في هذه البلاد المفتوحة، وبالتالي جعل العرب يشعرون بأن مصالح لهم فيها أصبحت أمراً واقعاً وهاماً في حياتهم. وكذلك فعل في بعض مناطق خراسان، بعد أن اقتنع بحيوية حركة انتشار الإسلام هناك، بعد أن قابله وفد من أتراك هذه المناطق، وأعلموه بأن ولاة خراسان، يرفضون دخول الأتراك في الإسلام، بحجة أن أموال الجزية ستغدو قليلة، وبالتالي فإن بيت المال سيعاني من نقص في الأموال، وسيقف عاجزاً عن تمويل مشاريع الدولة واحتياجاتها العامة.
من ناحية أخرى فقد كانت مظاهر وملامح ما يكنه الأمويون تجاه العرب والعروبة، تظهر بوضوح في أقوالهم وأفعالهم في كثير من المناسبات الوطنية، وبرهنوا من خلال هذه الأقوال عن عظيم تمسكهم في المسيرة العربية، التـي كانت عندهم من أقدس المقدسات، ولا بد من وضعها في طليعة كل النواحي الأخرى. ولعل أهم ما يجسد هذا الواقع الطيب في تاريخ الدولة الأموية، ذلك القول المشهور للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، حينما سمع بخبر هزيمة الوالي المغربي عبيد الله بن الحجاب أمام ثورة الخوارج، التي اندلعت في المغرب الأقصى بقيادة ميسرة المتغري سنة 122هـ/739م التـي كانت ثورة ضد الدولة الأموية برمتها. قال هشام بن عبد الملك "والله لأغفبن لهم غفية عربية ولأبعثن لهم جيشاً أوله عندهم وآخره عندي". ويدل قول هشام بن عبد الملك في المقام الأول على مدى اعتزاز خلفاء بني أمية بانتمائهم إلى مدرسة العروبة، هذه المدرسة العظيمة التـي لا يختلف عليها أحد.
لكن هذه السياسة العربية الثابتة للأمويين، أدت من ناحية ثانية إلى نتائج سلبية، وكانت في طليعة الأسباب التـي عملت وساهمت في سقوط الدولة الأموية على أيدي العباسين، الذين جاؤوا إلى الحكم بعد عمل متواصل من التنظيم والدعاية والإعلان ضد الأمويين، تحت شعار العمل من أجل إعادة الحق إلى أصحابه الحقيقيين، هذا الحق الذي تجسد بمنصب الخلافة، التـي عمل العباسيون من أجلها تحت شعار (الرضا من آل محمد). وحينما نجحوا في عملهم ضد الدولة الأموية، تنكروا لأصحاب الحق من آل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكانوا في معاملتهم مع آل البيت أقسى من الأمويين بأضعاف مضاعفة.
إن الذي ساعد العباسيين على الفوز بمنصب الخلافة، هو اعتمادهم على استغلال وضع الموالي من غير العرب، الذين حرموا حقوقهم في العصر الأموي، ووعدهم العباسيون بتحقيق هذه الحقوق فيما إذا وقفوا إلى جانبهم في حربهم ضد الأمويين. وبالفعل فقد وقف الموالي إلى جانب العباسين، ولا سيما في ولاية خراسان بقيادة أبي مسلم الخراساني، حيث انطلقت الثورة العباسية التـي كان من نتيجتها سقوط الدولة الأموية، التـي وصفت بأنها دولة عربية أعرابية.
فالأمويون كما هو معروف عنهم، أنهم اعتقدوا على الدوام أن الدين الإسلامي، لن يتمكن من أن يصبح القاسم المشترك لجميع الشعوب التـي دخلت الإسلام، لأن هذه الشعوب وبخاصة الفرس والترك بقيت وفيه مخلصة لانتمائها القومي الخالص، وظل تأثير الإسلام فيها هامشياً باهتاً. لذلك نرى أن الأمويين تعصبوا لعروبتهم وجعلوها سابقة على كل معتقد، فكانت في نظرهم القاسم المشترك الذي يجتمع عليه العرب، ومن ناحية أخرى كانت المظلة الوحيدة التـي يستظل بظلها كل العرب. وقد أصاب الأمويون في هذه النظرة البالغة النضوج، لأنهم كانوا يعرفون تمام المعرفة أن الشعوب الأخرى من غير العرب والتي دخلت في الإسلام، لا يمكن أن تتخلى عن مشاعرها الوطنية والقومية الخاصة، وهذا ما حدث بالفعل في العصور التالية حينما تعصبت هذه الشعوب ضد العرب، وضربوا هيبة الخلافة والمصالح العربية طوال العصور الوسطى.
وقد رد الحاقدون على النظرة العربية عند الأمويين، بأن كالوا لهم التهم الظالمة، التـي كان من أخطرها أنهم ابتعدوا عن الاسلام ودعوا خلفاءهم بالملوك لنفي الصفة الدينية عن فترة حكمهمولابد أن هذه التهم وهذه الادعاءات ابتعدت عن الحقيقة، لأنه من باب الوفاء للإسلام أن ننفي عن الأمويين مثل هذه التهم الظالمة، لأنهم رأوا أن مصلحة الإسلام لا تتعارض مع مصلحة العرب، ذلك لأن العرب بشكل عام هم مادة الإسلام وقوته وزخمه، وما كان للإسلام أن ينتشر ويتطور ويبقى دون العرب، ذلك لأن القرآن الكريم الذي يُعد المصدر الرئيسي للشريعة الإسلامية، كتب بلغة العرب. وهذا ما أقره وأكده الأمويون في كل تصرفاتهم السياسية. وقد بدأ بذلك معاوية بن أبي سفيان، فقام بتمتين صلاته مع بني كلب بالشام، فتزوج امرأة منهم هي ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد سارع الكلبيون في الدخول في الإسلام بعد ذلك. وقد أثرت سياستها في نفوس الآراميين من سكان البلاد الأصليين، وشعروا أن قربهم من الخليفة سيساعدهم كثيراً على تحسين أحوالهم، فأسلم بعضهم وبقي بعضهم الآخر على مسيحيته، فعاملهم برفق ولم يشعرهم أن هناك فرقاً بين مسيحي ومسلم، انطلاقاً من أن الجميع عرب يتساوون في الحقوق والواجبات وحينما جاء عمر بن عبد العزيز إلى الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك، قام بالعديد من الإصلاحات الإدارية والمالية، منطلقاً بذلك من أسس شرعية إسلامية، لأنه هو الخليفة الأموي الوحيد الذي أراد إحياء الشريعة الإسلامية وجعلها الموجه العام لسياسة الدولة، فاعتبره الأمويون نكسة كبيرة لمشروعهم السياسي العربي، الذي يفصل بين السياسة والشريعة، فظلوا يلا حقونه في السر حتـى تمكنوا من قتله بواسطة السم في منطقة حلب بشمال سورية فمن أعمال عمر بن عبد العزيز على سبيل المثال، والتي كان الأمويون يعملون بعكسها، أن قام بتوزيع العطاء على العرب وغير العرب من الموالي، الذين كانوا يحاربون مع العرب في العديد من البلدان، كخرسان والمغرب والأندلس. بينما كان العطاء في الفترة السابقة لحكمه، لا يخضع لقانون معين أو أساس ثابت، بل كان القادة الأمويون في المعسكرات هم الذين يتولون توزيع العطاء وتقسيمه على الجنود، ولكن ذلك كان يخضع في كثير من الأحيان إلى مشيئة القائد ونظرته إلى المقاتلين، فكان يلغي الجنود من غير العرب، ويسجل الجنود العرب في سجلات العطاء، مما جعل الكثير من الجند يشعرون بالمرارة والظلم والحرمان، فكانوا يتذمرون ويطالبون القادة بمنحهم حقوقهم، التـي هي حقوق مشروعة في نظرهم. بعد وفاة عمر بن عبد العزيز عاد الأمويون إلى سابق عهدهم، من حيث اعتمادهم على الشعور العربي والابتعاد عن الشعور الديني، وكان في مقدمة خلفاء الأمويين في ذلك هشام بن عبد الملك، الذي ابتعد كثيراً عن الاهتمامات الدينية، واعتبرها من اختصاص المشايخ والفقهاء، وركز على تعزيز مسيرة الدولة على أساس التفوق العربي على جميع الصعد. وتُعد نظرته هذه نظرة متقدمة جداً في هذا الميدان، ويجب أن تعمم في الحياة العربية، كما عممت في بلدان أوروبا منذ سنين طويلة، مما ساعد الأوروبين على التخلص من ازدواجية السلطة بشكل عام. لكن نظرته المتقدمة هذه جلبت عليه المشاكل، واتهمه المعارضون بتهم قاسية، كان في طليعتها أنه سمح لواليه على العراق خالد القسري بالاستمرار في ولاية العراق، على الرغم من اتهامه بأنه كان يميل إلى المانوية ويصادقهم. واتهمه بعضهم بأنه كان من أوائل الزنادقة في الاسلام، وأنه بنى لوالدته كنيسة بالكوفة قبالة المسجد، وأنه تسامح كثيراً مع اليهود حتـى استخدمهم في جباية الأموال والخراج وما إلى ذلك من أعمال إدارية ومالية.
مهما كانت صورة الأمر، فلم يكن الأمويون يقصدون من تصرفاتهم الإساءة إلى الاسلام، بقدر ما كانوا يريدون أن يعلموا الناس طريقة في غاية التقدم والنضوج، هي الفصل بين الحكم والدين، أو كما يعرف بالمصطلح المعاصر، الفصل بين الدين والدولة. ولو كان الأمويون ضد الدين كما اتهمهم بعض المؤرخين، لما كانوا قربوا بعض رجال الدين، ففي عصرهم اشتهر الأوزاعي ورجاء بن حيوة وغيرهما لكن الذي عزز عند الناس مبدأ بعد الأمويين عن الإسلام، هو عدم قدرتهم على فهم متطلبات الحكم وقيادة الدولة، فتغافلوا عن أشياء كثيرة عن قصد أو غير قصد، مما أدى في النهاية إلى إحباط وتدمير مشروعهم السياسي العربي والحضاري. فعجزوا عن إقامة أركان العدل بين الناس، وعجزوا عن فهم الحرية التـي نادى بها الإسلام، وهي سيادة القانون وتطبيقه على القوي مثل الضعيف، وذهبوا إلى السعي الحثيث لإكثار ثرواتهم وأملاكهم والاستئثار بخيرات البلاد على حساب أصحاب الحق والحاجة من أهل البلاد. كما وقعوا في غلط كبير حينما جعلوا من آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعداء ألداء لهم, فتوسعت شقة الخلاف بين الطرفين، ووصل الأمر إلى مستويات محزنة للغاية، تجسدت بسفك الدماء واغتصاب الحقوق. أضف إلى ذلك فقد غلبت عليهم الميول العصبية القبلية في معظم الأحيان، فانقسم الناس في عصرهم إلى عصبتين متناحرتين، هما القيسية واليمانية.
مهما كانت صورة الأمر، فإن الأمويين على الرغم من أغلاطهم الكبيرة، فإنهم سيظلون في نظر أهل الوعي ومحبي العروبة والمؤمنين بها، رجالاً عظاماً وضعوا للعرب بعامة نظرية خالدة، هي أن بلوغ المجد والرقي، لا يتأتى إلا من خلال التعاون العربي الصادق في كل ميادين الحياة، من أجل أن نعود نحن العرب إلى ما كنا عليه في عصر الأمويين من قوة فاعلة وحية بين الشعوب والأمم المختلفة، وهذا لن يتحقق إلا بالتغلب على الإقليمية والفردية والقبلية والأنانية تحت مظلة العروبة. وهذا إن طبقناه في مستقبل الأيام، فإننا نكون قد استفدنا من تجربة الأمويين، التـي تثير في النفس عند ذكرها مشاعر الأسى والحزن على أول دولة عربية قوية، عصفت بها ريح الخلافات وغياب الوعي. وإذا لم نفعل ذلك نكون قد وضعنا أنفسنا أمام مجاز صعب، لن يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى حتمية الفناء والذوبان في محيط الأقوياء.
فالدولة العربية في عصر الأمويين، كانت من أكبر وأهم الدول في العالم بإطلاق، وقد جاءت أهميتها في المقام الأول من أن حكامها جعلوها عربية خالصة، ولا سيما بعد أن أنجزوا عمليات التعريب في ميدان الإدارة والنقد، التـي عُدت من أعظم المنجزات في العصر الأموي، لأنها ساعدت على تقوية الحكم العربي بعد أن حولت كل شيء في جهاز الدولة إلى العربية، وبخاصة نشر اللغة العربية في الدواوين والتخلص من الموظفين غير العرب، فازدهرت اللغة العربية في هذا العصر.